تتوجّه أنظارنا في مطلع هذا العامّ، إلى السلام المفقود، وإلى المآسي والمظالم التي تجتاح عالمنا بفعل العنف الذي أضحى لغة مُشتركة، يُتقنها السّواد من الناس، ويُقدّمونها على لغة الحوار والتفاوض والمودّة والإحترام، الأمر الذي يُقوّض تدريجيّاً أُسُس السلام، ويُهدّد حياة الكمّ الأكبر من البشرية.
وإن كان العنف هو الوسيلة التي تُتقنها الجماعات المتقاتلة لبلوغ أهدافها، فإنَّ اللاعنف يبقى اللغة الأكثر تناسُباً للإنسان والأكثر حِفظاً لكرامته، كونه الخط الوحيد والحقيقي للترقّي البشري(1)، الذي يفترض الكثير من التأني والإنتباه على الحياة والكرامة والأوضاع البشرية.
واللاعنف ليس استسلاماً، كما قد يبدو للبعض، ولا تَهرُّباً من واجب المواجهة، بل هو أسلوب حياةٍ إنسانيّ بالضرورة، ومسيحيّ بامتياز، يفرِضُه الإحترام المتبادَل، والإيمان بيسوع المسيح "رئيس السلام"(أش915). وهذا الأسلوب قائمٌ على إدراكٍ عميق بأنّه ليس بمقدور البشرية أن تحيا في العنف، وأنّ المسيحيّ لا يخاف من مواجهة الشرّ، ولكنه لا يُواجِه الشرَّ بِسلاح الشرّ، بل بسلاح المحبّة والحقيقة اللّتان أتى بِهِما يسوع. فالمحبّة المسيحيّةُ التي هي شُرعَةُ الإنجيل الكُبرى، لا تقوم على الإستسلام للشرّ البتّة، بل على مواجهة الشرّ بالخير(روم1217-21)، لكي تصغر شيئاً فشيئاً مساحةُ الشر، وتتمدّدُ مساحةُ الخير وتتوسّع، ومن هُنا قول يسوع: "مَن ضَرَبَكَ على خَدِّكَ الأَيمَن، فأعرِض له الآخر"(متى539)، فعَرضُ الخَدِّ الآخر، أي الموقِف اللاعنفي، هو أيضاً سبيلٌ من سُبُل المواجهة المسيحيّة للعنف، حتّى ولو بَدا في الأمرُ حماقَةً.
يأتي العُنف من باطن الإنسان، أي قلبُه؛ "فمِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ"(مر 721). باطن الإنسان هو حقل المعركة الحقيقي حيث يتواجَه العنف والسلام(2). ويُصِبِحُ أنَّ السبيل الوحيد لتصحيح الخلل الحاصِل في الباطن، هو وضع القلب في مرمى المحبّة التي تَرميهِ بِنارِها المُطَهِّرَة، فتحرق العنف الساكن فيه، وتبني هناك صَرحاً للسلام. بالمحبّةُ هَدمَ يسوع جِدار العداوة الفاصِل بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الله، وحقّق السلام(أف214ب-16).
وإن كان المسيح "رئيس السلام"، فهذا يعني أن المرؤوس يجب أن يكون على صورَةِ رئيسِه، فينبذ العنف الذي يحمله في قلبِه، ويسمح لرحمة الله بأن تشفيه فيصبح هكذا بدوره أداة سلام، وعلامةً مرئيّة لله الذي يعمل، من خلال الإنسان، على بناء عالَمٍ لائقٍ بالإنسان، قائمٍ على ركائز المحبّة والحقيقة والعدل والحرية.
(1)البابا فرنسيس، اللاعنف: أسلوب سياسة من أجل السلام - رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2017، فقرة 1.
(2) البابا فرنسيس، اللاعنف: أسلوب سياسة من أجل السلام - رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2017، فقرة 3.